مسابقة ليالي الخير 6 | الحلقة 21
عبد الله البردوني: شاعر اليمن وبصيرته النافذة

يُعدُّ الشاعر عبد الله البردوني واحدًا من أعظم شعراء العربية في القرن العشرين، إذ حمل قلمه رسالة النضال والحرية، وحوّل فقدانه للبصر إلى رؤية نافذة أضاءت دروب الفكر والأدب. لم يكن البردوني مجرد شاعر ينسج الكلمات، بل كان ناقدًا ومفكرًا، جسّد في شعره مأساة الإنسان اليمني وتوقه للحرية، مستلهمًا تجربته الشخصية في معاناة الفقر والمرض والاستبداد.
نشأته وتكوينه الأدبي
ولد عبد الله البردوني عام 1929م في قرية البردون، التابعة لمحافظة ذمار اليمنية، ونشأ في بيئة ريفية قاسية، حيث كان العمى في مجتمعه بمثابة مأساة كبرى، تحرم صاحبها من أي دور فعال في الحياة القبلية القائمة على القوة والنزال. أصيب البردوني بالجدري في طفولته، مما أدى إلى فقدانه بصره، لكن ذلك لم يمنعه من السعي وراء المعرفة، فحفظ القرآن الكريم ودرس العلوم الشرعية واللغوية في المدرسة الشمسية بذمار، ثم في دار العلوم بصنعاء، حيث صقل موهبته الأدبية واطلع على أمهات الكتب الشعرية والنقدية.
البردوني الشاعر والمثقف
بدأ البردوني قرض الشعر في سن الثانية عشرة، وكان شعره في بداياته متأثرًا بالمدرسة التقليدية، لكنه سرعان ما طور أسلوبه ليصبح صوتًا فريدًا في الشعر العربي الحديث. جمع في شعره بين قوة اللغة ورهافة الإحساس، مستلهمًا التراث العربي القديم، لكنه في الوقت نفسه لم يغفل عن الحداثة، حيث تأثر بشعراء مثل أبي العلاء المعري وأبي تمام والمتنبي، إلى جانب تأثره بالمدرسة الرومانسية الحديثة.
لم يكن البردوني شاعرًا فقط، بل كان مثقفًا موسوعيًا، فقد قرأ في التاريخ والفكر والسياسة، وكتب في النقد الأدبي، حيث أبدع مؤلفات مثل رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه وقضايا يمنية، التي عكست وعيه العميق بتاريخ اليمن وقضاياه السياسية والاجتماعية.
النضال في وجه الظلم
لم يكن البردوني شاعرًا منعزلًا عن قضايا شعبه، بل كان صوته الشعري منبرًا للنضال في وجه الاستبداد. سخر قلمه لمهاجمة نظام الإمامة الحاكم في اليمن، وكان من أوائل المحرضين ضد الظلم، مستخدمًا الشعر كسلاح ثوري. وعُرف بشجاعته في مواجهة الطغاة، حيث ألقى قصائد جريئة في المناسبات الرسمية، ينتقد فيها الفساد والقهر، دون أن يخشى بطش الحكام.
ومن أشهر أبياته التي تعكس معاناة الشعب اليمني تحت الحكم الاستبدادي:
“العصافير في عروقي جياع، والدوالي والقمح في كل وادي”
إرثه الأدبي ووفاته
ترك البردوني إرثًا أدبيًا غنيًا، فقد أصدر اثني عشر ديوانًا شعريًا، بالإضافة إلى عدة مؤلفات نقدية وفكرية، وظل حتى أيامه الأخيرة رمزًا للفكر المستنير. عانى في سنواته الأخيرة من أمراض عديدة، لكنه ظل متمسكًا برسالته الثقافية حتى وافته المنية في 31 أغسطس 1999م، تاركًا وراءه إرثًا خالدًا من الشعر والنثر الذي لا يزال يثري المكتبة العربية.
إن عبد الله البردوني لم يكن مجرد شاعر، بل كان ضميرًا حيًا لأمته، وروحًا حرة رفضت القيود، وبصيرة تجاوزت العمى لترى الحقيقة بوضوح مبهر.